تبدأ السارابند بلا مقدمات، تتّحد الكمنجات وتصدر تلك النغمة الجنائزية، تعلو وتهبط، و تكرِر وتكرِر، تخترق قلبي وتترك داخله حزنًا أزليًا. لما اخترتها بالذات؟ سارابند "هاندل" .. صدفة؟.
ما إن عدت إلى بيتك في أول أيام أجازتك من التجنيد حتى أخبروك بمرضها الشديد. ما الجديد؟ ألم تصمد
أمام هذا المرض ثماني سنوات كالصخر؟ كيف وهنَت؟.
أخذت تليفونك ووضعت السماعات في أذنيك وقدت بأقصي ما تسمح به سيارتك العتيقة.
لا يوجد في القائمة سوى هذه الموسيقى، تتكرر إلى ما لا نهاية وتترك ألم لا نهائي أيضًا.
الطريق مزدحم جدًا. تتذكر صوت خالَتَك في التليفون .. "مُتعبة جدًا .. تعالى فورًا"، تفترسك هواجسك، كعادتك تتوقع الأسوأ، تنتقل نفس النغمة الكئيبة من الكمنجات إلى الأبواق، وتصرُخ .. "متى ينفتح الطريق بحق الجحيم؟!!"
كلما يمر الوقت تنتصر مخاوفك على أملك، تود أن تحاكيها ولو لثوانٍ، تود أن تنظر إليك، تتعرف عليك، تقبّلها، وتضغط على يدك بشدة عندما تصافحها ولا تتركها.
أخيرًا تصل، وتجدهم جالسين، صامتين، تقرأ على وجوههم كل شيء..
أهكذا إذًا؟ انتهى كل شيء؟ ولكن لما تشعر بالحزن؟ أليست لحظة حتمية؟ يقينية؟ إن لم ترحل قبلها فلا مفر من مرورك بتلك اللحظة الأليمة.
تدخل حجرتها وتنظر إليها، تنظر إلى هذا الجسد القوي الذي طالما أدار تلك العائلة بإشارة من إصبعه، هذا الجسد الذي صمد أمام جلطة المخ والشلل النصفي ثماني سنوات.
ظلَّ عنيدًا قويًا، واجه مرض قاسي لا يُهزم حتى قضى عليه تمامًا.
تدنو منها، تلثم جبينها البارد المائل للزُرقة وتُحتبَس دموعك في مُقلتيك وتخرج سريًعا ليشرعوا في أعمال الغُسل.
و تجلس بجوار من إلتقيتهم عند الدخول، و تتحول إلى نسخة منهم، صامت .. شارد .. حزين وتسافر بعيدًا إلى الماضي.
وعندما يعود ذهنك تسمع كلماتهم:
- في الجنة إن شاء الله، ماتت في رمضان !
- وفي العشر الأواخر !
- إنه يوم 27 .. هذه ليلة القدر !
لم تعد تؤمن بتلك الأشياء أليس كذلك؟ لم تعد منطقية ولا عقلانية بالنسبة إليك، لكن هذه لحظة يسقط فيها العقل والمنطق والفلسفة ويسقط فيها كل ما قرأته.
حسنًا إن كان هذا خيرًا فليكن، لتكن ليلة القدر ولتتغمدها الملائكة -التي لم تعد تؤمن بوجودها- بنورٍ ورحمة و لتبارك روحك الطيبة يا جدتي "هند" كل المعتقدات والأديان والشعائر. ليشهد قدّاس روحك الطاهرة حشد من مسلمين وأقباط ويهود وبوذيين وهندوس وسيخ. ليصلي كلٌ صلاته و يدعو الإله الواحد أن تنعم هذه الروح بالسكينة الأبدية.
ينتهي الغُسل والتكفين، وتحملها مع الآخرين إلى أسفل، يُصلى عليها صلاة المغرب وصلاة الجنازة، وتذهبوا إلى المقابر، لا تتوقف نغمة "هاندل" الجنائزية داخلك رغم إنك نزعت السماعات منذ زمن.
يُفتح القبر .. لولا أنك حررت عقلك من الخرافات لما استطعت حضور موقف كهذا.
نزعت حذائك بلا تردد عندما قال الحارس لا يجوز النزول إلا حافيًا.
تنزل درجات قصيرة، تُخفض رأسك بشدة حتى لا تصطدم بالجدار.
ها هي راقدة في مثواها الأبدي داخل قماش أبيض، تسمع همهمات ما بين آيات قرآنية وأدعية يتلوها الحضور، تجلس على رُكَبك وتضع يدك على يديها الموضوعتان على بعضهم تحت الكفن. لم تعد تحتمل عيناك إحتباس المزيد، فتنهمر الدموع بلا نهاية..
يهمّوا بالخروج ويربت حارس القبر على كتفك مُعزّيًا لترحل. لما لا تنتهي حياتي الآن؟ لما لا يتركوني أرقد هنا بجانبها ثم يمضوا وحسب؟
تصعد درجات السُلَم ويُغلق القبر.
تلك هي الحياة وهذا هو الموت. الحقيقة الوحيدة الغير قابلة للجدل والشك. وهذا هو الإنسان يظلّ يودِّع أناسًا ويعاني طوال حياته من فراقهم حتى يحين أجله.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.