إرجاء الإنتحار وإدراك الإنسان أنه لديه القدرة على إنهاء حياته وقتما يشاء، تماما كالحُلم الجليّ عندما يدرك النائم أنه يحلم فيذهب بخياله إلى أكثر ما يمكّنه لا وعيه من شذوذ وتطرف، يجعل العيش في هذه الحياة مختلف تماما، أنتَ لا مسيّر ولا مخيّر، أنتَ لست هائما في مدارات القدر الأعمى، بل تشعر أنك إله! أنك صانع القدر! أنك متحكم بزمام كل شيء، أنك تستطيع الإستيقاظ عندما تحاصرك الأشباح من كل إتجاه..
الصمت في كثير من الأحوال يساوي لاشيء، لذلك اعتدت الصمت وأتقنت لغته -رغبة مني في ابطاء سرعة الزمن أو إيقافها قدر المستطاع- لكنه في أحيان أخرى يساوي شيئا، شيئا خطيرا، كالتجاهل أو اللامبالاة والإهمال وإهدار الفرص.
هذه الأحيان الأخرى كثيرا ما تحيط بي، وكثيرا ما تعاملت معها بصمت، حتى فترت علاقات وانقطعت بعضها وضاعت فرص وفاتت قطارات وأنا لا أزداد إلا صمتا.
ما الإيمان؟، أن تصدق شيئا دون دليل، دون إثبات، عن ظهر قلب، لك أن تؤمن أن والدتك تحبك، أن حبيبتك تبادلك نفس المشاعر، أن غدا سيكون يوما أفضل. وبخلاف المسائل الشخصية أنا لا أريد أن أؤمن بأي شيء، لا أريد أن أسلم بنتيجة ما لأمر لم أخابر تطور تفاصيله، لا أريد أن أستبق حقائق مبنية على شيء غير ملموس، وعلى كل حال لم يعد الأمر بالنسبة لي يتعلق بالإيمان أو الكفر، وإنما بمعضلات لا تفسير لها، أنا غير قادر حقا على إدراك أشياء كالأبدية والعدم والأزل، لا تعنيني كافة الفلسفات أو الديانات أو الآلهة، لايعنيني سوى البحث عن إجابات لتلك المشاكل أينما وجدت، وما دون ذلك لغو فارغ وسفسطة بليغة..
في الكابوس، أنت وحدك الشاذ وسط السريالية المطلقة، المنطق محاطا بالخرافات، دهشتك واكتراثك سبب فزعك ورعبك، ومحاولات الكابوس في طمس فرديتك ستنجح عاجلا أم آجلا، حتى تصبح مجرد سمة من سماته المخيفة..
أود أن أخبرك اليوم بقدراتي الخاصة، قدرتي -مثلا- على الخسارة، على الاخفاق، لقد خضت كافة معاركي وأحلامي متبارزا بتلك الموهبة، وبذلت فيهم كل ما بوسعي، لعل هذا يفسر فشلي الذريع معك ومعها ومع الموسيقى والكتابة وكافة الكائنات الحية، حتى تلك القطة الشريدة المنبوذة التي تحول كل ودها لجفاء، ويخطر في بالي الآن وأنا أستمع إلى هذا النحيب الأوبرالي القادم من عوالم أخرى، أتقرأين حقا هذياناتي؟
أتدرين، فكرت مرارا في محاولة وصف ما أشعر به هذه الأيام، وأكاد لا أصدق ما ذهب إليه ظني، إلا إنني واثق من دقة الوصف، ربما أنا أول عشريني يصاب "بالشيخوخة"، نعم، وأفترض أنه -مثلا- لو أُتيحت الفرصة لتلك السطور أن تتجاوز كل الحواجز الفيزيقية والميتافيزيقية التي بيننا لربما وافقتيني على هذا الوصف أنتِ أيضا. هذا هو التفسير الوحيد، فطالما كل هذا الألم لا يوجد وراءه أمراض عضوية، فهي الشيخوخة إذن. أو ربما هناك خطأ إلهي ما كان سبب في أن تكون فترة صلاحيتي قصيرة، على كل حال ربع قرن من العيش في هذه الحياة وقت كافي للمرء ليطفح به الكيل أليس كذلك؟. لا أدري في الواقع حقيقة ما أمرّ به، ولا حتى أجد الكلمات المناسبة لوصفه بشكل جيد. الوحدة التي أشعر بها بلغت مراحل مُخيفة، لم يتوقف الأمر عند إنقطاع كل الخيوط الخفية مع الآخرين، لكن وصل الأمر لتلاشي وجودهم المادي ذاته. وبلغ الأمر ذروته عندما أصبحوا جميعا أشباح، وباتت هيئتهم مجرد ضباب باهت مشوّش، بالكاد يحتفظوا بملامح ثابتة. لا أستطيع أن أصف لكِ كيف يكون الأمر عندما يسمع المرء صوت تنهيدته. يقول خوان رولفو أن كل تنهيدة هي بمثابة جرعة حياة تخرج من المرء، لا عجب إذن أني مصاب فعلا بتلك الشيخوخة، أليس كذلك؟