Monday, August 6, 2012

العرّافة

وضع الاسطوانة فى الجرامافون ثم أداره و عاد إلى كرسيه الهزّاز ، ثوانى و بدأت الموسيقى.. "السكوت" لبيتهوفن 

لم تكن فقط الموسيقى المفضلة لنا ، لكن ثمة أمر غامض بشأنها ، كأنها تسرد قصتي .. قصتي مع العرّافة !

تلك الليلة الجميلة على كوبري قصر النيل ، صفاء السماء زادها شفافية ، و القمر قلَّ حياؤه فازداد توهجاً والنيل تتهادى أمواجه فى عشوائية منتظمة.

بخطوات مُتمهلة سرتُ معها مُمسكاً بيديها الناعمة نتأمل السماء سوياً ، نعم .. نستطيع أن نلمسها بأيدينا .. حُبنا أقوى من أى شئ ، رسمنا أحلاماً وردية و لوَّناها ، وبينما كنا نسير بجانب سور الكوبرى وجدنا امرأة عجوز جالسة على الأرض ، همسَت لي و قالت : ألا تريد أن أقرأ لك الكفّ؟
فرفضتُ و لكن همَت ليلى و مدت يدها لتقرأ كفّها العرّافة فسألَتها مبتسمتاً لي : أين سأكون بعد شهر من الآن؟ ، فأجابتها العجوز : فى القبر !

إختفت إبتسامة ليلى و أكفهر وجهها من هول الصدمة فسحبتُ يدها و نهرت العجوز : اخرسى يا ملعونة ! ثم مخاطباً ليلى : إنها مجنونة .. لنذهب
- إنتظر لنرى ما الأمر.. فتوجهت للعجوز و قالت:
كيف؟! .. إن زفافي بعد ثلاثة أيام..
- هذا ما أراه ، لا أجد شئ آخر فكفِّك مُعقد .. لعل الأمر يتضح بعد قراءة كفّ الشاب
فقلت لها : أنتِ كاذبة و أنا لا أكترث بهذه الخرافات !
فألحّت عليّ ليلى فلم أملك إلا أن أرضخ لإلحاحها خاصةً بعد أن رأيت كيف ساءت حالتها.. 

فمددت يدى لها فتأملت كفّي وقالت : هذا أكثر وضوحاً ! .. ستتزوج بعد عام و ستُنجب طفلين و ستكون أُسرتك سعيدة .. سكتت برهة ثم استدركت ، سيلقوا حتفهم فى حادث و ستبقى وحيداً و ستموت هَرِماً !  
لم أنسى وجه ليلى وهى تستمع إلى تلك الكلمات .. كأنى أرى فى عينيها مئة إحساس مختلف ، دهشة و ذهول و قلق و حيرة و خوف و غضب  
فقلت للعجوز :
- حسناً هذا يكفي
فأمسكت بيد ليلى و رحلنا..
ثقُلت خُطاها و شرد ذهنها ، كان وجهها ذابل حزين كأنها مريضة بداء مُزمن من سنوات ، لقد آمنت بنبؤة العرّافة تماما !

و فى مساء اليوم التالى هاتفتنى و أخبرتنى أنها قادمة ، إنتظرتها لكنها تأخرت كثيراً ، زاد قلقى و خوفى و كلمات العرّافة لم تفارق ذهنى رغم إننى لم أصدق كلمة واحدة مما قالت ، حتى سمعت صرخة قادمة من الشارع .. فصُعقت ، أعرف هذا الصوت تمام المعرفة !
هرولت على السلم مسرعاً لأسفل و خرجت إلى الشارع فوجدت ليلى ملقاه على الأرض بجانب سيارة و وجهها يسيل منه الدماء.. !
تجمد دمى فى عروقى و تصلبت شرايينى و توقف قلبى تماماً ! .. ماتت أمام منزلى ولم أتمكن حتى من توديعها.. ماتت ليلى و مات الحب فهانت الحياة و تاهت المعانى و ضاعت المفاهيم .. اللعنة على الموت .. اللعنة على القدر !
   
مرَّ عام من اليأس و القنوط .. حاولت مرة الإنتحار و فشلت !، لم يتغير أي شئ فى حياتى حتى قابلت سارة..
كانت مرِحة و جميلة ، مليئة بالسعادة و الأمل و التفاؤل ، لا أدرى ماذا أعجبها فى شخصٍ كئيب مثلي ، أحبتني كثيراً و بذلت كل ما في وسعها لتجعلني أشعر بالسعادة ، قلبت حياتي رأساً على عقب ، لم أنسى ليلى للحظة و لم أحب غيرها لكن ما ربطنى بسارة من حياة زوجية سعيدة كان شئ آخر خاصةً بعدما أنجبنا مريم و عمر .

- أنا سعيدة .. أخيراً ستفى بوعدَك لنا
- لقد أجّلت هذه الرحلة كثيراً يا أبى
- نعم لكني أعدكم بعدم التأجيل مجدداً .. لقد أخذت أجازة لمدة اسبوعين و سنقضيهم بالكامل فى الغردقة.

إنطلقنا بالسيارة سالكين الطريق الصحراوى .. كان الطريق مستقر و الأولاد فى غاية السعادة و أمُهم كذلك ، و فجأة خُيلت لي صورة العرّافة فى ذهنى و كأني أراها على الزجاج الأمامى .. أغمضت عينى و فتحتها بسرعة فأختفت الصورة و وجدت سيارة قادمة من الطريق الفرعي يساراً قاطعة الطريق ! .. حاولت أن أتفاداها ، لكن سرعة سيارتي كانت عالية فأنقلبت بنا السيارة عدة مرات !

لم أصاب إلا ببعض الكدمات لكن سارة و الأولاد لقوا حتفهم ! 
لعنت الموت و القدر مجدداً بل و لعنت الحياة ذاتها !

لا أدري ما خطب العرّافة و كيف صدقت نبؤتها ، ولا أدري لما يحدث معي كل هذا..
لم يعد للحياة هدف .. مرت الأيام و كل يوم يشبه الآخر
ها أنا قد بلغت العقد السادس من عمري .. أنتظر الموت كل يوم !


نظر إلى النافذة ، وعلى دقات البيانو استرجع كل ما مر به في حياته 
و بينما توقفت أصابع بيتهوفن عن العزف ، توقف الكرسي عن الحركة !