Saturday, February 22, 2014

Hérold's Andante Within

بدأت دقات البيانو بجرأة عذبة تفتتح الحركة الثانية للكونشرتو الثالث للبيانو لفيردناند هيرولد، تُمهِّد للأذن استقبال لحن ساحر للكمان، لحن يسافر بالروح بعيدا إلى يوتوبيا مهجورة للحب والسلام.



خفتت حدة دقات البيانو أمام لحن الكمان، وتحولت إلى تموجاتٍ هادئة، تموجات لانهائية تدور في دائرة مفرغة كأنها بوابة الزمن السحرية لتلك اليوتوبيا. ومع ذلك روحه رفضت الدخول وآثرت البقاء، شيءٌ أكثر جاذبية وعذوبة منعه من الرحيل، شيءٌ كالوقوف أمام النافذة ومشاهدتها وهي ترقص.



كانت تبدو في فستانها الأبيض كملاكٍ ملّ كمال الفردوس وهبط إلى الأرض بملء إرادته، انسيابية حركة ذراعيها من الأسفل إلى الأعلى ثم إلى الأسفل مجددا، بدت مماثلة لنغمات الكمان، أحس وكأنها كانت ترقص تماما هكذا في مُخيلة المؤلف منذ أكثر من مئتي عام.



توقف الكمان وعاد البيانو بقوة منفردا وكأنه أحس بالغيرة، انطلقت نغماته مُنتشية في كل إتجاه بثقة، تجيء وتذهب بدقة، وتُمهِّد مرة أخرى لعودة الكمان.



وعاد الكمان أبدع مما كان، مُصِرّ على إقناع روحه بالرحيل، مُصِرّ على أداء رسالة اللحن الذي يعزفه!، وخفتت دقات البيانو مرة أخرى، وتحولت تموجاته إلى أخرى لا تدور حول نفسها، بل تتحرك إلى الأمام، كراقص على ساحة من الثلج، يخطو بقدمه اليمنى ثم اليسرى في خفة إلى مالانهاية. 



تمايلها الناعم ودورانها، خطواتها القصيرة المتزنة، كل تلك الأشياء جعلت رقصتها تبلغ قمة الإنسجام مع مقطوعة هيرولد، كأنها سمعتها ألف مرة، ورقصت هذه الرقصة على لحنها ألف مرة.



وتوقف البيانو لأول مرة منذ بدأت المقطوعة، ليمنح الكمان المساحة الكافية، ليُجري آخر محاولته .. علّها تنجح. انتقل بسلاسة مرة وأخرى عبر النغمات، ثم بشكل سُلّمي تدريجي للأعلى حتى بلغ الذروة.



وعاد البيانو ومعه الكمان يزفر كلًا منهما أنفاسه الأخيرة. كانت قد انتهت وهوَتْ على الأريكة من التعب، وكان قد هوى هو أيضا هائمًا من شدة النشوة.