Thursday, December 4, 2014

Gnossienne

https://www.youtube.com/watch?v=SO7dnxKcEzw

ظل يُحدق في تموجات النهر اللانهائية. السماء بدت وكأنها ستمطر بشدة، الغيوم حجبت مشهد الغروب الرائع، لكنه لم يكترث، ليس هناك ما هو أهم مما يفكر فيه حاليا وما هو أهم من مشاهدة تموجات النهر. حتى أنه وضع سماعات في أذنه بها موسيقى لتقوم بعزله كليا عن أي شيء آخر. الموسيقى كانت مقطوعات Gnossiennes لإريك ساتيه والتي ساعدت فعلا في عزله عما حوله من روتينيات.

"gnossienne" كلمة فرنسية اخترعها إيريك ساتيه تعني لحظة الوعي بأنك لن تدرك أبدا كنه إنسان آخر مهما بدا قريبا جدا منك، مهما طالت مدة معرفتك به لسنوات، يظل باب مغلق لا تملك مُفتاحه، منزل كبير لم تكتشفه بالكامل بعد، مكان غامض لا تملك له خريطة، لا تعرف أين تقف ولا إلى أين أنت ذاهب. كان قد قرأ عن هذا المعنى منذ بضعة أيام ولم يتوقف عن التفكير فيه وربطه بما حدث له مؤخرا، ولا عن سماع تلك المقطوعات السيريالية.

المطر انهال بغزارة لكنه لم يحرك ساكنا. كانت دقات البيانو تدق في أذنيه برفق وتتساقط من السماء على كتفيه بقوة، والتموجات في النهر صارت تتمدد وتصطدم ببعضها البعض بسرعة كبيرة. كانت تلك هي إحدى اللحظات النادرة التي أحس فيها بوحدة الوجود.

منذ جلس على الطاولة لم يتوقف عن النظر إليه. لقد تأخرتْ عن موعدها عشر دقائق، لابد أن المطر السبب، فالجميع يهرولون تحت مظلاتهم لكنه ما زال متجمد على الحافة الركنية. لقد قالت المقابلة في غاية الأهمية، لولا هذا ما ترك رواية خوسيه ميّاس من يده.

الرواية كادت أن تصيبه بالجنون. الوحدة، كشعور، وكتوَحُد، مفهومان لم يتمعن فيهما أبدا من قبل، حتى أنه صار نسخة من شخصية الرواية الرئيسية، يدخن سجائر الحشيش، وينظر إلى كرسيه الهزّاز وساعة الحائط لفترات طويلة، ويفكر بالقرين، هل من الممكن أن تكون سيلفيا هي قرينه؟، أي وحي شيطاني ألهم ميّاس تلك الرواية؟. مرت عشر دقائق أخرى، لازال ينظر إليه، لم يحرك ساكنا. 

كانت غير مُتّزنة، اعتذرت عن التأخير، بدت شاحبة في معطفها الأسود. حياها بإيماءة وعاد ينظر إليه. طلبتْ قهوة وبدأتْ تُحدثه عن الفيلم الفرنسي التي شاهدته بالأمس، ومدى تأثرها به، انتحر آلان بعد إكتئاب شديد. لم تتوقف عن التدخين بتوتر منذ جلست، حدثته عن محاورة أفلاطون ومينون التي قرأتها، وقدرة أفلاطون الهائلة على الإقناع.

"ربما كانت لنا حياة سابقة" 
اعتدل واقفا بعدما نزع السماعات من أذنيه ونظر أسفله. 

"أتعتقد أن الإنسان لديه حقا إرادة حرة؟"
وَقع كلماتها شوّشه قليلا عن رؤية المشهد المرعب لكنه سرعان ما تدارك الأمر، اتسعت عيناه وتطاير منها الشرر.

"لابد أن نتوقف عن رؤية بعضنا البعض"
صرخ عاليا "انتظر" وهرول ناحية الحافة الركنية للسور لكنه كان قد سقط كالحجر في لمح البصر، تجمع الناس وهاتف أحدهم الطوارئ. ظل يراقب طويلا تموجات النهر اللانهائية، وعلى وجه سيلفيا ارتسمت علامات الفزَع والدهشة، عاد إلى الطاولة وترك ورقتين من النقود وغادر في هدوء..