Saturday, April 11, 2015

لوحات عسكرية: اللوحة الأولى


ركضت سريعًا بأرجلها الستة، الحرارة غير مُحتملة، الظل على مرمى بصرها.
ما أن وصلت حتى أحست بالفرق الكبير، الرمل أقل حرارة، يكاد يكون باردًا، مكثت قليلًا لتستريح ثم دخلت نفقها. لم يكن الظل وحيدًا، بل حوله ما يقرب من ثمانية عشر ظلًا آخر، بينهم مسافات متناسقة في تساوي. سقط ثلاثة حتى الآن.

 التاريخ منتصف آب تقريبًا، والساعة تجاوزت الواحدة ظهرًا بالتأكيد، يستطيع المرء أن يعرف هذا من شدة الشمس، أي أمل في نفحات هواء رطب ميئوس منه تمامًا، بل الرجاء في ألا تهب ريح ساخنة تُزيد الأمر قسوة. كان الرمل به من الحرارة ما يسمح للعين المجردة برؤية بخار خفيف يتصاعد من بين ذراته. كان العرق يتساقط بلا نهاية، فيبلل ملابسهم لكن سرعان ما تجف بفعل الحرارة العالية، وعندما تجف تكون قد صارت أكثر خشونة بسبب ترسب الأملاح، وعندما تضربها الشمس من جديد تكون أشبه بمكواة على الجلد. والحذاء الأسود الضخم الذي يرتدونه يمتص الحرارة من الشمس ومن الأرض فيكون أشبه بفرن يشوي أقدامهم داخله بلا توقف.

هم لا يدرون كم من الوقت مضى حتى الآن على وقوفهم، ولا متى ستنتهي مدة الوقوف، ذات يوم وقفوا ثلاث ساعات، وأحيانا وصلت المدة لخمس ساعات. بعضهم يرتدي ساعات يد، لكن لا يجرؤ أحدًا على النظر فيها، ولا حتى إحداث أبسط حركة، فكلهم رأوا ما حدث أول يوم لهم في المعسكر، عندما سقط أحدهم، فهمّ زميله الواقف وراءه لحمله إلى الظل، فما أن خطا ناحيته حتى تلقى الضربات من كل مكان، في كل مكان، ومكث على أثرها يومان في العيادة بعدما كُسر ساعده. هكذا كانت تُدرك الأوامر، بعشوائية العقاب المفاجئ.

التحمل ليس خيارًا، فعندما يسقط أحدهم مغشيًا عليه، يظل راقدًا على لهيب الرمال التي تسلخ جلده حتى يعود له وعيه، وهذا ما ينتقص من طاقته أثناء الوقوف في اليوم التالي، طاقته التي تنتقص بالفعل بسبب سوء التغذية وقلة عدد ساعات النوم، فالمهمة كانت إرجاء السقوط الأول قدر المستطاع، حتى لا تسحقهم حتمية تلك الدورة اللانهائية من التساقط.

لكنه لم يسقط قط، ولا مرة واحدة، يظل واقفًا مهما طالت المدة، وبعدما تنتهي ينصرف بشكل طبيعي، لا يبدو عليه الإنهاك كما يبدو على الآخرين، وقد أثار هذا الأمر دهشة زملاؤه، فهو لا يبدو عليه قوة جسمانية مبالغ فيها أو شيئًا من هذا القبيل، كلهم سقطوا إلا هو، فسأله أكثر من شخص عن كيفية صموده الغريب هذا، فكان يُجيب بأنه يسمع أصوات تُلهيه عن شعوره بالألم، وكلما يشتد عليه الألم تعلو تلك الأصوات فتعزله داخليًا عن كل ما هو خارجي، فدهش زملاؤه من هذا الأمر. ظن البعض أنه مجنون، وظن آخرون أنه مسكون، إلا أنهم ظلّوا عاجزين عن تفسير ماهية صموده. وباتوا يعقدون الرهانات في بداية كل يوم قبل فترة الوقوف إن كان سيسقط أم لا، وبدأ يلاحظ  أيضا عدد من ضباط الصف وقادة الفرقة عدم سقوطه، وظلّوا يتابعوه كل يوم في دهشة، إذ كان سقوط الجنود بالنسبة لهم أمرًا بديهي. 
   
يتساقط العرق من جبهته بغزارة، وينزل على جفنيه فتحرق الأملاح عينيه، فلا يستطيع سوى أن يفتحهما ويغلقهما عدة مرات حتى تخرج قطرات العرق منهما. سقط جميع الجنود إلا اثنان منهم هو، هذه المرة كانوا يعلمون مدة الوقوف. سبع ساعات. ربما جهلهم بالمدة قبل ذلك كان في صالحهم، كان يمدهم بالأمل في أن لحظة الانتهاء قد تكون وشيكة، وأن كل ما عليهم هوالمزيد من التحمل قليلًا، لكن الهدف هذه المرة مستحيلًا، وبعد مرور أقل من ثلاث ساعات كان قد تساقط نصفهم، ثم واحدًا تلو الآخر، حتى لم يبق سواهما. لكنهم لم يعلموا سبب طول فترة الوقوف هذه المرة، ربما حضور قائد المعسكر، فهم لم يشاهدوه يحضر من قبل أي أنشطة يقومون بها. كان يمر عليهم مرة في اليوم، في مواعيد متفرقة، يبادل قائد الفرقة نظرات بسيطة في صمت ثم يرحل، لكن تلك كانت أول مرة يحضر معهم فترة الوقوف. كان جالسًا في المنصة وسط قائد الفرقة ونائبه، وفي يده كوب ماء مثلج، يملأه جنديه الخاص كلما أشار له بذلك، لم ينبس بكلمة مع من حوله، وظلّ طوال الوقت يشاهد الجنود يتساقطون في صمت.   
  
راهن الجنود كلهم على سقوطه اليوم، وأن صموده درب من دروب المستحيل، وحتى قائد الفرقة ونائبه ذكروا هذا الأمر فيما بينهم قبيل بدء فترة الوقوف، وتوقعوا سقوطه. لم يتبق سوى هما الاثنان، كان الجندي الآخر واقفًا خلفه، كان يستمد منه قوة التحمل، وظلّ واقفًا حتى ست ساعات، وهذا رقم قياسي لم يحققه من قبل، لكنه لم يستطع الوقوف أكثر من ذلك، فهوى ووقفته المذهلة آخر ما تعلقت به أنظاره.

مرت الساعة الأخيرة، نظر قائد المعسكر إلى ساعته ونزل درجات المنصة في بطء متجهًا نحوه. كان قد فاق باقي الجنود لكنهم ظلوا جالسين من شدة التعب. اقترب منه القائد ورفع نظارته الشمسية إلى جبهته وسأله بحدة: "لما لم تسقط؟" فلم يرد وظل يحدق في عينيه بقوة، فأخرج طبنجته وصوبها إلى رأسه وصرخ في وجهه: "ارقد يابن الزانية" فلم يرد مجددًا واقترب منه خطوة ثم صفعه على وجهه صفعة دوت في أرجاء المكان كالطلقة، صفعة قضت على تاريخه العسكري وعلى ما تبقى له في الخدمة، صفعة ستسكن لا وعيه حتى آخر لحظة في حياته. أصاب الذهول الجميع، وقف الجنود فاغرين الأفواه، وهرول القادة وضباط الصف تجاه الجندي بعدما شلّتهم الدهشة. كان القائد قد ضربه بقاعدة الطبنجة على رأسه فسقط على الفور، لأول مرة. وانضم الجميع في ركله ولكمه في كل مكان حتى تساقط الدم من جسمه بالكامل، وكان زملاؤه الجنود يبكون عليه في عجز ولم تفارقهم دهشة ما فعله للتوّ. توقف الضرب، ابتعدوا عنه قليلًا، كانت كل مفاصل جسده مفرودة، ظنوا أنه مات، ظلّوا ينظرون إليه ومشاعر الدهشة والرعب تتملكهم. وبعد دقائق، ثنى رجله اليسرى، ثم وضع فوقها اليمنى ونظر إلى السماء.  




No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.