Wednesday, November 9, 2016

بائع الكتب المستعملة


بلّ إصبعه بلسانه ليقلب صفحة الكتاب، وتابع بإهتمام قراءة الرواية، تعجبه حبكة ماريو يوسا كثيرًا، يلتهم صفحات رواياته بلا ملل، ولا يشعر بضوضاء الزقاق الذي يتواجد فيه متجره، زقاق ضيق جدًا، يسع بالكاد عرضه لاثنين. علاقته جيدة بجيرانه البائعين، لكنهم لا يقرأون، كان يتبادل معهم الحديث عما يقرأ في التاريخ والأدب، لكن لم يشعر باستجابة منهم، كأنه يتحدث إلى نفسه، فاقتصر الحديث بينهم على تبادل التحية اليومية في الصباح. ذات مرة كان يتحدث إلى عم رؤوف ”تصوّر أن تشيلي مرت بإنقلاب مماثل لما حدث هنا؟، تدهورت أحوالهم كثيرًا بعدها..“، هز عم رؤوف رأسه دون أن يتكلم، لم يجد شيئًا ليقوله. أحس بالإحراج وصمت، واعتاد أن يحتفظ بمعلوماته لنفسه، فقد كانت دومًا مشكلته أنه لا يجد من يشاركه الحديث. حتى زوجته، عندما كانا يشاهدان الأخبار سويًا الأسبوع الماضي، أخبرها بأن النظام كاذب، وأن السياسات الحالية ستؤدي إلى تدهور الأوضاع مثلما حدث في أمريكا اللاتينية، فتعجبت من كلامه، وقالت له جملة أحزنته كثيرًا، ”لقد عبثت الكتب بعقلك“، فلم يرد، وربت على كتفها بحنان. يبيع عم جميل الكتب المستعملة منذ ثلاثون عامًا، يبيعها بأسعار زهيدة، يود لو أن يوزعها مجانًا لمحبي القراءة الذين يرتادوا متجره باستمرار، لولا أنها مصدر دخله الوحيد، يشعر بالذنب كثيرًا عندما يأتي قارئ لا يملك ما يكفي من المال لشراء كتاب يريده، يخفّض السعر قدر المستطاع رغم أعباء الحياة الصعبة، كإيجار المنزل وإيجار المحل، فقد أعطاه صاحب المنزل يومان لسداد الإيجار المتأخر. اليوم هو يوم خاص جدًا بالنسبة له، ستأتي مريم لشراء رواية أنطون تشيكوف التي طلبتها المرة السابقة، يحب عم جميل الحديث مع مريم كثيرًا، فهي تشاركه حب الأدب الروسي وأدب أمريكا اللاتينية، ويستمر بينهما الحديث لفترات طويلة دون أن يشعروا بالملل. تأتي دائمًا مريم بشعرها الأسود الطويل وعينيها السوداوين وابتسامتها اللطيفة التي تبعث بالبهجة والراحة. كان ينتظرها ويقرأ رواية يوسا، فدخل شاب في العشرين من عمره يسأل على كتاب مباحث الجنس لفرويد، فأخبره عم جميل أن الكتاب موجود وسعره عشرون جنيهًا، فأخرج الشاب النقود فوجد ثمانية جنيهات فقط، قال لعم جميل ”آسف سآتي مرة أخرى، ليس لدي ما يكفي الآن“، تذكر عم جميل موعد الإيجار المتأخر وتردد للحظة ثم باعه له بثمان جنيهات. مرت دقائق حتى سمع صوت مريم يقول ”صباح الخير يا عم جميل“ فابتسم فورًا وقام لتحيّتها لكنها لم تكن بمفردها، جاء معها شاب في منتصف العشرينات، قالت مريم مبتسمة ”يوسف خطيبي يا عم جميل“، حيّاه بإبستامة خفيفة وشعر بغصّة لم يفهم سببها. كانت مريم قد أحضرت يوسف لشراء الأعمال الكاملة لماركيز، حيث أخبرته أنها موجودة بالتأكيد عند عم جميل، أحضرها له وأعطى رواية تشيكوف لمريم ثم انصرفا. جلس عم جميل، أشعل سيجارة، ونفث دخانها ببطء، أخرج النقود من جيبه ووجد أنه أتم المبلغ المطلوب للإيجار. شعر عم جميل بتعب بسيط فأغلق المحل وعاد إلى منزله. كانت زوجته غارقة في النوم، استلقى بجانبها وطوقها بذراعيه، ووضع رأسه على الوسادة، وأغمض عينيه..

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.